
بقلم: لؤي إسماعيل مجذوب
الجرح الذي لا يندمل
لا شيء يُوجِع الجندية مثل أن ترى من أقسم معك على الشرف، يبيعه بثمنٍ بخس.
ذلك الشعور لا يُوصف — حين تنظر في وجه خائنٍ كان بالأمس زميل السلاح، فتجده اليوم متحدثًا باسم العدو.
الخيانة لا تحتاج إلى بندقية، يكفي أن يتحدث الخائن بصوتٍ هادئ لتُصاب الحقيقة بطلقٍ في الرأس.
ومن هذا الجرح يطلّ علينا اللواء المتمرّد حسن محجوب من الفاشر، متأنقًا بكلماتٍ منمّقة عن “العودة” و”الخدمات”، كأنه لم يكن أحد الذين دلّوا المليشيا على قلب المدينة.
يتحدث بلسانٍ واثقٍ، كأن شيئًا لم يحدث، في مدينةٍ ما زالت تقيم جنائزها في كل حي، وما زالت رائحة البارود تملأ أنفاسها.
الذاكرة العسكرية لا تنام
لكن الذاكرة العسكرية لا تُصاب بالزهايمر، وضمير الوطن لا يُشترى بخطاباتٍ منمّقة.
فمن خان القسم العسكري، وانقلب على رفاق السلاح، وفتح الباب لمليشياٍ مارست القتل والنهب والاغتصاب، لا يمكن أن يصبح يومًا عنوانًا للثقة أو الأمن.
إن قسم الجندية ليس نصًّا يُتلى، بل عهدٌ يُحمل في الضمير، ومن يخلّ به، يسقط من رتبة الشرف إلى درك الخيانة.
الخيانة ليست وجهة نظر
في عرف الجيوش، الخيانة ليست اختلافًا سياسيًا أو اجتهادًا تنظيميًا، بل جريمة مكتملة الأركان.
هي خنجرٌ في خاصرة الوطن، ونقضٌ للعهد المقدّس الذي يربط الجندي بترابه ورايته ورفاقه في الميدان.
الخائن لا يبرر فعله بالظروف، ولا تُغسَل خيانته ببيان، لأن الخيانة تُكتب في التاريخ بالحبر الأسود، وتُحفر في الذاكرة كوصمة لا تزول.
حسن محجوب عاش تحت ظل الجيش، أكل من رزقه، وتشرب من قيمه، ثم باعه في لحظة ضعفٍ أخلاقي وسياسي لا تُغتفر.
واليوم يحاول أن يتقمّص دور «الضامن» و«المطمئن»، متناسيًا أن أكثر ما يحتاجه الوطن ليس كلماتٍ من خائن، بل أفعالًا من مخلصين ما زالوا على العهد والراية.
حين يتحدث الخائن باسم المدينة
الفاشر — المدينة التي دفعت ثمن صمودها دمًا ودموعًا — ليست بحاجة إلى من “يطالب بعودتها للحياة”، بل إلى من يحمي ما تبقّى من نبضها.
كيف يتحدث عن «توفير الخدمات» من ساهم في تحويل المستشفيات إلى أنقاض؟
كيف يطالب «بعودة المواطنين» من سمح للميليشيا بانتهاك أمنهم وشرفهم؟
إن من باع المدينة لا يملك الحق في الحديث باسمها، ومن خان الجيش لا يُؤتمن على الوطن.
الحرب النفسية في ثوبٍ ناعم
ما يفعله حسن محجوب وأمثاله ليس تواصلاً إنسانيًا كما يزعم، بل اختراقٌ نفسي منظَّم ضمن أدوات الحرب المعنوية الحديثة.
الخطاب الناعم يُقدَّم لتخدير الحس الوطني، وبثّ الشك في مؤسسات الدولة، وزعزعة الإيمان بالجيش، ومحاولة تفكيك الرابط النفسي بين المواطن وقواته المسلحة.
إنها حرب بلا رصاص، لكنها أخطر من المدافع، لأنها تستهدف الوعي الجمعي لا الجغرافيا.
المعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على العقل والذاكرة.
من يملك سردية الناس، يملك قدرتهم على الصمود أو الانهيار، ولهذا تُضخ هذه الرسائل المخدِّرة عبر وجوهٍ مألوفة، لتبدو مطمئنة وهي تحمل السمّ.
التحصين المعرفي... سلاح ما بعد المعركة
في زمن الحرب النفسية، لا يكفي أن نحمل السلاح، بل يجب أن نحمل الوعي أيضًا.
تحصين المجتمع لا يكون بالانفعال فقط، بل بالوعي والانتباه والشك الذكي.
على المواطن أن يدرك أن الثقة لا تُمنح لمن باعها، وأن الحديث باسم الأمن لا يصدر ممن هدمه.
كل كلمةٍ تُقال اليوم في مناطق النزاع جزء من عمليةٍ تستهدف إعادة تشكيل الصورة الذهنية للمواطن.
ولذلك، لا بد من وصايا ثلاث تمثل خطوط الدفاع المعرفي الأولى:
1. لا تصدّق من لم يُجرب عليه صدق.
2. لا تنخدع بالمظاهر الناعمة لمن تلطخت يداه بدماء الأبرياء.
3. لا تجعل الخائن وسيطًا بينك وبين وط
ما بين الشرف والعار... مسافة ضمير
الخيانة لا تُغسل ببيانٍ ولا بحديثٍ إعلامي.
الذين خانوا الوطن سيظلّون رموزًا للعار مهما تزيّنوا بالألقاب أو رفعوا شعارات الإصلاح.
والوطن الذي أنجب رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لن تضلّ بوصلته بخداع صوتٍ أجوف.
إن صوت الخائن مهما ارتفع، يظل صدىً بلا روح.
والوطن لا يُشفى من جراحه إلا بصدق رجاله، لا بزيف من باعوه في أول امتحانٍ للشرف.
كلمة أخيرة...
سيظل الوطن أكبر من خيانة الأفراد، وأبقى من ضجيجهم المؤقت.
قد يتحدث الخائن باسم المدينة، لكن المدينة تعرف أبناءها الحقيقيين.
وما دامت الفاشر تحتفظ بذاكرتها، فلن تخلط بين من دافع عنها ومن دلّ العدو على أبوابها.
فالتاريخ لا يكتب بمن تحدثوا، بل بمن ثبتوا.
والخيانة مهما حاولت أن تبتسم أمام الكاميرا، ستبقى وجهًا أسود في ذاكرة الوطن.